في حكم إجارة الثياب والحُلِيِّ للمناسبات



فإجارةُ الثيابِ المُباحةِ جائزةٌ، ويجوز ـ أيضًا ـ إجارةُ الحُلِيِّ مِنَ الذهب والفضَّة للنساء بأحَدِ النقدَيْنِ أو غيرِهما إذا كانَتِ المدَّةُ معلومةً والأجرُ معلومًا، وهو مَذْهَبُ الشافعيِّ وأصحابِ الرأي وروايةٌ عن أحمد ...   للمزيد 

«التصفيف السابع والثلاثون: الإيمان بالقدر (١)»



القَدَرُ ـ فِي اللُّغَةِ ـ هُوَ الإِحَاطَةُ بِمِقْدَارِ الشَّيْءِ، تَقُولُ: قَدَرْتُ الشَّيْءَ أَقْدُرُهُ قَدَرًا إِذَا أَحَطْتُ بِمِقْدَارِهِ. وَقَدَرُ اللهِ ـ تَعَالَى ـ هُوَ: تَعَلُّقُ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ ـ أَزَلًا ـ بِالكَائِنَاتِ كُلِّهَا قَبْلَ وُجُودِهَا،... للمزيد

التحرير البديع في تعليل تحريم أعيان المَبيع



عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ ـ عَامَ الفَتْحِ وَهُوَ بِمَكَّةَ ـ: «إِنَّ اللهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ وَالمَيْتَةِ وَالخِنْزِيرِ والأَصْنَامِ» ... للمزيد

سلسلة ردود على الشبهات العقدية لـ «شمس الدين بوروبي» [إدارة الموقع]



ادِّعاء المُحاضِر المتعالم بأنَّ السلفيِّين يتَّهمون الصوفيةَ بالقول بسقوط التكاليف عنهم، ونسبتُه التمسُّكَ بالسنَّة للمتصوِّفة كلامٌ عارٍ عن الدليل، بعيدٌ عن الواقع بعدًا ظاهًرا ... للمزيد

«التصفيف الثلاثون: التوحيد العلمي والعملي (١)»



العقائد الإسلامية
من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية

«التصفيف الثلاثون: التوحيد العلمي والعملي (١)»

للشيخ عبد الحميد بن باديس (ت: ١٣٥٩ﻫ)

بتحقيق وتعليق د: أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس -حفظه الله-

التاسع والأربعون: توحيده في ربوبيَّته:


مدونة الأثر السلفية

مدونة أثرية سلفية على الكتاب والسنة

مدونة الدعوة السلفية

مدونة أثرية سلفية على الكتاب والسنة

مدونة الخزانة السلفية للكتب

مدونة أثرية سلفية على الكتاب والسنة

مدونة الموحدة السلفية

مدونة أثرية سلفية على الكتاب والسنة

مدونة دعائم منهاج النبوة

مدونة أثرية سلفية على الكتاب والسنة



الثلاثاء، 1 يناير 2019

الصبر على الأذى في سبيل الإصلاح


«وإن تعجب فعجب أمر هؤلاء الذين يريدون من علماء الدين أن يذعنوا لأباطيلهم ويطأطئوا رؤوسهم أمام عظمة أهوائهم، وما ضمتها من عفونات ما يلقيه الشيطان عليهم رغم تعاليم الدين الذي يلعن من يكتم من الدين المنزَّل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم شيئا وكأنَّ هؤلاء لم يعلموا أننا لم نكتب ما كتبنا وما كتبه إخواننا من أهل الدين والبصيرة النافذة لقضاء شهوة من الشهوات أو طلب دخل من الدخول أو لنيل حظ من الحظوظ، وأن الله يعلم والمسلمين يعلمون أنه لولا أن الله تعالى أمرنا بأن نبلغ هذا الدين كما أخذناه لا ننقص ولا نزيد ولولا أننا نزحزح أنفسنا عن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى ما رضينا لأنفسنا أن نخاطب هذه الهلثاء التي لا فقه لها ولكننا سوف نثبت حيث أمرنا الله مستميتين في الدفاع عن الدين ولو قطعنا إربا أو رمى بنا في أتون وإن نحن لقينا ما لقينا فحسبنا:
ما أنت إلا أصبع دميت         وفي سبيل الله ما لقيت»
[العربي التبسي «الشهاب» (٣/ ٢٩٧)]

الاثنين، 20 أغسطس 2018

تزكية النفس بين المذموم والمحمود

تزكية النفس
بين المذموم والمحمود

نصُّ السؤال:
بعض طلبة العلم المتدرِّجين في العلم الشرعي يُثني على نفسه في المجالس، ويذكر محاسنها مع الحضور، وينزِّهها من النقائص والعيوب مثل أن يقول -عند إيراد مسألةٍ فقهيةٍ أو توجيهٍ أو رأيٍ-: «لم أُسبَق إلى هذا الكلام»، أو يقول: «هذا الكلام لا تجدونه عند غيري»، أو يقول: «هذه خرجةٌ خاصَّةٌ لا أعلم أحدًا وُفِّق إليها» ثمَّ يصفها باسمه، ونحو ذلك من العبارات، فما حكم ذلك؟ أفيدونا جزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فيختلف أَمْرُ الذي يمدح نَفْسَه ويذكر مَحَاسِنَها باختلافِ نيَّته(١)، فإِنْ كان يذكر ذلك مِنْ بابِ عُلُوِّ النفس والارتفاعِ بها عن الناس، واحتقارِ الأقران بالتميُّز عليهم، والافتخارِ بما اكتسبه وحصَّله؛ فإنَّ هذه التزكيةَ مذمومةٌ شرعًا، لقوله تعالى: ﴿فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡ [النجم: ٣٢]، ولفظُ الآيةِ عامٌّ شاملٌ لكُلِّ مَنْ زكَّى نَفْسَه بحقٍّ أو بباطلٍ، وهذه الآيةُ ـ وإِنْ نَزَلَتْ في شأنِ اليهود ـ فإنَّ «العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ»؛ ذلك لأنَّ الله تعالى هو العالمُ بمَنْ يَسْتحِقُّ التزكيةَ مِنْ عِبادِه ومَنْ لا يستحقُّها، وقد أخبر اللهُ عزَّ وجلَّ عن ذلك بقوله: ﴿فَلَا تُزَكُّوٓاْ أَنفُسَكُمۡۖ هُوَ أَعۡلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰٓ ٣٢ [النجم]، وقولِه: ﴿بَلِ ٱللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ وَلَا يُظۡلَمُونَ فَتِيلًا ٤٩ [النساء]، فمثلُ هذه التزكيةِ للنفس مشينةٌ ودعوَى فاسدةٌ؛ لأنها أَثَرُ العُجْبِ والغرور والبغي والاستطالة بالنفس على الناس، وسلوكِ سبيلِ الترفُّع والافتخار حتَّى يُرِيَ أتباعَه والناسَ أنه أَعَزُّ مكانةً وأكبرُ منزلةً، فيركب أعناقَهم ويستعبد قلوبَهم ويُريهم فَضْلَه عليهم ولا يرى فَضْلَهم عليه.
ويدخل في هذا المعنى ـ أيضًا ـ مَنْ يعلو بنَفْسِه باستخدامِ لفظِ «أنا» أو «نحن» على وجهِ التعظيم وما شابَهَهما مِنْ ألفاظٍ مُضيفًا لها إلى نَفْسه مثل: «لي» و«عندي» وغيرهما؛ فإنَّ «أنا» لفظٌ نصفُ بَلاءِ العالَمِ منه ـ كما يُقال ـ لِمَا يتضمَّنه ـ غالبًا ـ مِنْ عمومِ الناس مِنْ دعوَى عريضةٍ وكَذِبٍ أَعْرَضَ(٢). وضِمْن هذا المنظورِ يقول ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ولْيَحْذَرْ كُلَّ الحذرِ مِنْ طغيانِ «أنا» و«لي» و«عندي»؛ فإنَّ هذه الألفاظَ الثلاثةَ ابْتُلِيَ بها إبليسُ وفرعونُ وقارونُ؛ ﻓ  ﴿أَنَا۠ خَيۡرٞ مِّنۡهُ [الأعراف: ١٢] لإبليس، و﴿لِي مُلۡكُ مِصۡرَ [الزخرف: ٥١] لفرعون، و﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُۥ عَلَىٰ عِلۡمٍ عِندِيٓ [القَصص: ٧٨] لقارون، وأَحْسَنُ ما وُضِعَتْ «أنا» في قول العبد: «أنا العبدُ المُذْنِبُ المخطئ المستغفر المعترف» ونحوِه، و«لي» في قوله: «لي الذنبُ ولي الجرم، ولي المسكنةُ ولي الفقر والذلُّ»، و«عندي» في قوله: «اغْفِرْ لِي جِدِّي وَهَزْلِي، وَخَطَئِي وَعَمْدِي، وَكُلُّ ذَلِكَ عِنْدِي»(٣)»(٤).
هذا إِنْ كان صاحِبُ النيَّةِ الفاسدةِ صادقًا في مَقالاته بحيث يكون ممكَّنًا في العلمِ حقيقةً، مُحيطًا بمَدارِكِ الشرعِ عارفًا بمَقاصِدِه، متفقِّهًا في المَسائِلِ التي يُعْنى بها في فصولها وتفاصيلها، قائمًا بهذا العلمِ عملًا ودعوةً.
فإِنْ كان صاحِبُ هذه العباراتِ يحاكي أهلَ العلمِ وطُلَّابَه وليس منهم فإنَّ هذا مِنَ الجهلِ المركَّب؛ فتزكيتُه لنَفْسِه ـ بهذا الاعتبارِ ـ مذمومٌ مِنْ بابٍ أَوْلى.
أمَّا مَنْ مَدَحَ نَفْسَه تقصُّدًا منه ليكون قولُه أَوْقَعَ في القلبِ وأَدْعى للقَبول في باب النصح والتعليم، أو الوعظِ والتأديب، أو للإصلاح بين مُتخاصِمين، أو لدَفْعِ شرٍّ عن نَفْسِه، أو مِنْ باب «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» وما إلى ذلك، وكان ـ مِنْ حيث أعلميَّتُه ـ مُحِقًّا فيها مُطابِقًا قولُه لِمَا هو عليه مِنْ واقعِ علمِه؛ فإنَّ مِثْلَ هذه التزكيةِ محمودةٌ لكونها تجلب مصلحةً دينيةً ـ مِنْ جهةٍ ـ وهي ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ شكرٌ للمُنْعِمِ سبحانه بالتحدُّث بنعمته عليه؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ ١١ [الضحى].
وهذه الحالةُ المحمودة تؤيِّدها العديدُ مِنَ النصوص الشرعية والآثار، منها: قولُه تعالى ـ حكايةً عن يوسف عليه السلام ـ: ﴿قَالَ ٱجۡعَلۡنِي عَلَىٰ خَزَآئِنِ ٱلۡأَرۡضِۖ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٞ ٥٥ [يوسف]، وقولُ الذي استأجر موسى عليه السلام(٥): ﴿سَتَجِدُنِيٓ إِن شَآءَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ ٢٧ [القَصص: ٢٧]، وقولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَمَا ـ وَاللهِ ـ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ للهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ»(٦)، وقولُه عليه الصلاةُ والسلام: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَنْشَقُّ عَنْهُ القَبْرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ»(٧)، وفي البخاريِّ أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه حِينَ حُوصِرَ أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ وَقَالَ: «أَنْشُدُكُمُ اللهَ، وَلَا أَنْشُدُ إِلَّا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَالَ: «مَنْ حَفَرَ رُومَةَ فَلَهُ الجَنَّةُ» فَحَفَرْتُهَا؟ أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ فَلَهُ الجَنَّةُ» فَجَهَّزْتُهُمْ؟»، قَالَ: فَصَدَّقُوهُ بِمَا قَالَ(٨)، وقولُ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه: «وَاللهِ إِنِّي لَأَوَّلُ رَجُلٍ مِنَ العَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللهِ...» الحديث(٩)، وقولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه: «وَاللهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ، [وَلَوْ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا أَعْلَمُ مِنِّي لَرَحَلْتُ إِلَيْهِ]»(١٠)، وسؤالُ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه عائشةَ رضي الله عنها عمَّا يُوجِبُ الغُسْلَ؟ فقالت: «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا الأَرْبَعِ وَمَسَّ الْخِتَانُ الْخِتَانَ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ»»(١١)، ومثلُه قولُ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما لمَّا سُئِلَ عن البَدَنَةِ إذا أَزْحَفَتْ(١٢): «عَلَى الْخَبِيرِ سَقَطْتَ..»(١٣) ـ يعني نَفْسَه ـ. قال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «ونظائرُ هذا كثيرةٌ لا تنحصر»(١٤)، فمثلُ هذه التزكيةِ جائزةٌ بل مُسْتحَبَّةٌ، و«الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(١٥).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٢ من المحرَّم ١٤٣٤ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٦ ديسمـبر ٢٠١٢


(١) انظر: «الأذكار» للنووي (٢٤٦ ـ ٢٤٨).
(٢) انظر: «معجم المناهي اللفظية» لبكر أبو زيد (١٥٠).
(٣) أخرجه البخاريُّ في «الدعوات» بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «اللهم اغفِرْ لي ما قدَّمْتُ وما أخَّرْتُ» (٦٣٩٨، ٦٣٩٩)، ومسلمٌ في «الذِّكر والدعاء» (٢٧١٩)، مِنْ حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه.
(٤) «زاد المَعاد» لابن القيِّم (٢/ ٤٧٥).
(٥) اختلف العلماء في الشيخ الذي استأجر موسى عليه السلام، والمشهورُ عند الكثيرين أنه شعيبٌ عليه السلام ومِمَّنْ نصَّ عليه: الحسنُ البصريُّ ومالكُ بنُ أنسٍ وغيرُهما، وجاء مصرَّحًا به في حديثٍ لكِنْ لم يصحَّ إسنادُه على ما ذَكَرَه ابنُ كثيرٍ، وقِيلَ: هو ابنُ أخي شعيبٍ عليه السلام، وهو المنقول عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: إنَّ الذي استأجر موسى عليه السلام يثرى أو يثرون صاحِبُ مدين، ويرى بعضُهم أنَّ هذا لا يُدْرَك إلَّا بخبرٍ، ولا خبَرَ تجب به الحجَّةُ في ذلك.
انظر:«تفسير ابن كثير» (٣/ ٣٨٤ ـ ٣٨٥)، و«صحيح قصص الأنبياء لابن كثير» (٢٦٥).
(٦) أخرجه البخاريُّ في «النكاح» باب الترغيب في النكاح (٥٠٦٣) مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.
(٧) أخرجه مسلمٌ في «الفضائل» (٢٢٧٨) مِنْ حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه.
(٨) أخرجه البخاريُّ في «الوصايا» باب: إذا وَقَفَ أرضًا أو بئرًا واشترط لنَفْسِه مثل دِلاء المسلمين (٢٧٧٨).
(٩) أخرجه البخاريُّ في «المناقب» باب مَناقِبِ سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رضي الله عنه (٣٧٢٨)، ومسلمٌ في «الزهد والرقائق» (٢٩٦٦).
(١٠) أخرجه البخاريُّ في «فضائل القرآن» باب القُرَّاء مِنْ أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (٥٠٠٠)، والحديثُ بالزيادة في آخِره أخرجه مسلمٌ في «فضائل الصحابة» (٢٤٦٢).
(١١) أخرجه مسلمٌ في «الحيض» (٣٤٩).
(١٢) أَزْحَفَتْ أي: وَقَفَتْ مِنَ الكَلال والإعياء، [انظر: «شرح النووي لمسلم» (٩/ ٧٦)، و«لسان العرب» لابن منظور (٩/ ١٣١)].
(١٣) أخرجه مسلمٌ في «الحجِّ» (١٣٢٥).
(١٤) «الأذكار» للنووي (٢٤٨).
(١٥) أخرجه البخاريُّ في «بدء الوحي» باب: كيف كان بدءُ الوحيِ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (١)؟ ومسلمٌ في «الإمارة» (١٩٠٧)، مِنْ حديثِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه.

مواقفُ سلفيَّة في دحضِ دعاوى ابنِ حنفيَّة وشُبُهات الجمعيَّة

الحمد لله وليِّ الصالحين، والصلاةُ والسلام على إمام الأنبياء والمُرْسَلين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
ففي خِضَمِّ الصراع الظاهر على الساحة الدعوية، والتدافعِ الكائن بين أهل الحقِّ وخصومهم، نُشِر على صفحات الأنترنت مقالٌ مَلَأَه مُسطِّرُه دفاعًا عن المُخالِفين، وإصرارًا على إيجاد المَخارِج لانحرافاتهم، واستكانةً في تبييض صفحةِ دعوتهم المُسْودَّة بالأخطاء والمَهالِك العَقَدية والمنهجية، وأسَّس ـ بقواعدَ باطلةٍ وقياسٍ فاسدٍ ـ لجواز الانضواء تحت ركب الجمعيات الحزبية والهيئاتِ المُنطَوِيَة على مُناوَأةِ أهل السنَّة، وقد ارتأَتْ إدارةُ موقع الشيخ أبي عبد المُعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ  وتحت مَشُورَتِه وإشرافِه أَنْ تقف ـ مع المَقال المُشارِ إليه ـ مواقفَ سلفيَّةً تُجلِّي فيها بُعْدَ الكاتبِ ـ في حكمه على الجمعية ـ عن المنظور السلفيِّ الصحيح، وتذكِّر القارئَ الفهيمَ بالهوَّة الساحقة بين الجمعيَّة الباديسيَّة الأولى والجمعيةِ الحاليَّة، ويظهر نقدُ الدعاوى ودحضُ الشُّبُهات في سبعةِ مواقفَ نبيِّنُها على الوجه التالي:

الموقف الأوَّل: احتوى المَقال على الطعن والتهوينِ مِنْ شأنِ منهج الردِّ على المُخالِف، كقول الكاتب: «ليس مِنَ السهل أَنْ أستجيزَ لنفسي أَنْ أُشارِك في هذا السِّجالِ الذي يُسيءُ إلى الدعوة ويُلْهِي عن صالحات الأعمال، وأنا مُستيقِنٌ أنه هناك جهاتٌ يَسُرُّها استمرارُه إِنْ لم تكن مُشارِكةً في إثارته، ومَنْ لم يفقه هذا الأمرَ سهلٌ عليه أَنْ يقول كُلَّ ما عنده، ولم يحسب الحسابَ لآثاره؛ واللهُ يعلم أنِّي أكتب هذا وأنا كارهٌ له».

الجواب: هكذا قال ـ هَدَاه الله ـ مُتَّهِمًا كُتُبَ الردودِ على المُخالِفين لأهل السنَّة ـ عمومًا ـ ومقالاتِ الشيخ أبي عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس ـ حفظه الله ـ الأخيرة ـ خصوصًا ـ أنها تُسيءُ إلى الدعوةِ وتُلهِي عن صالحات الأعمال!! فإنَّ مِثلَ هذه العباراتِ الضبابيَّة التي تُعارِض ما عليه المنهج السلفيُّ في أَهمِّ أساليبه الدَّعْوية لَتنمُّ عن شخصيَّةٍ مُنهزِمةٍ مقهورةٍ غيرِ مُطَّلِعةٍ على منهج الردِّ على المُخالِف مِنْ جهةٍ، أو تنجلي ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ عن شخصيَّةٍ هروبيَّةٍ لا تملك القدرةَ على مُواجَهة الحقِّ بدليله؛ فتختفي ـ هروبًا ـ وراء الشعاراتِ والعبارات والمُنحدَرات القَلِقة، كما هو صنيعُ الإخوان والجزرأة.

وليس بخافٍ على اللبيب أنَّ مِنْ مفاخر الدعوة السلفية: انتهاجَها نهجَ الردِّ على أهل الخصومات والبِدَع بالأدلَّة القاطعة والبراهينِ الساطعة ومُجادَلتِهم بالحقِّ؛ إذ هي بابٌ عظيمٌ مِنْ أبواب النصح والإرشاد؛ وأعظمُ الشرفِ أَنْ يكون حُمَاتُها ممَّنِ استعملهم اللهُ لحفظِ حَوزةِ دِينه مِنْ صولةِ أهل الأهواء والبِدَع، وإنَّ هذه الردودَ لَتُثمِر نتائجَ تُفرِح أهلَ الحقِّ وتُثلِج صدورَهم، وتَغيظ قومًا آخَرِين: كبيان الدِّين وإقامته على ما كان عليه مَنْ أُوحِيَ إليه به، وقمعِ المُبتدِعة وكفِّ شرِّهم المُشوِّه لسُمْعة الإسلام وصفائه، والمحافظة على وحدة الدِّين؛ وكَفَى بمنهج الردِّ عزًّا وشرفًا يُعلي أصحابَه: أنه يكشف حقيقةَ المُنتسِبين لأهل السنَّة السلفيِّين اسْمًا لا حقيقةً، وادِّعاءً لا صدقًا!! ويا عجبًا لمَنْ يدَّعي النهجَ السويَّ: كيف ساغ له السكوتُ على مَنْ يخالف المنهجَ الذي يدَّعي انتسابَه إليه، وينشر البِدَعَ والضلالاتِ، ويستميتُ في محاربةِ ذلك المنهجِ الحقِّ؟! وما واقعةُ «بني مران» في ولاية الشلف ببعيدةٍ!!

يقول ابنُ القيم ـ رحمه الله ـ: «ولهذا اشتدَّ نكيرُ السلف والأئمَّة لها [أي: البدعة]، وصاحوا بأهلها مِنْ أقطار الأرض، وحذَّروا فتنتَهم أَشدَّ التحذير، وبالغوا ـ في ذلك ـ ما لم يبالغوا مِثلَه في إنكار الفواحش والظلم والعدوان؛ إذ مَضرَّةُ البِدَع وهدمُها للدِّين ومنافاتُها له أَشدُّ؛ وقد أَنكرَ تعالى على مَنْ نَسَب إلى دِينِه تحليلَ شيءٍ أو تحريمَه مِنْ عنده، بلا برهانٍ مِنَ الله فقال: ﴿وَلَا تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلۡسِنَتُكُمُ ٱلۡكَذِبَ هَٰذَا حَلَٰلٞ وَهَٰذَا حَرَامٞ لِّتَفۡتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ ٱلۡكَذِبَ﴾ [النحل: ١١٦] الآية؛ فكيف بمَنْ نَسَب إلى أوصافه ـ سبحانه وتعالى ـ ما لم يَصِفْ به نَفْسَه، أو نفى عنه منها ما وَصَف به نَفْسَه؟!»(١)

ورَحِم اللهُ أئمَّةَ الهدى وأعلامَه، المجنِّدين أَنْفُسَهم للدِّفاع عن السنَّة وأهلِها مِنْ وطأة الأهواء وسُبُلها؛ اعتزازًا بذلك وفخرًا؛ تحقيقًا لحقِّ الله في تبليغ دِينِه، وحقِّ العباد على العلماء في النصح والتحذير(٢)، وصبروا على هذا الجهادِ صبرًا كَتَب لهم به التاريخُ صفحةَ عزٍّ وفخرٍ؛ قال الحافظ محمَّد بنُ طاهرٍ: «سَمِعْتُ أبا إسماعيل الأنصاريَّ يقول بهَرَاةَ: «عُرِضْتُ على السيف خمسَ مرَّاتٍ، لا يُقالُ لي: ارجِعْ عن مذهبك، لكِنْ يُقالُ لي: اسكُتْ عمَّنْ خالفك، فأقول: لا أسكت»»(٣)، وعن أبي بكر بنِ خلَّادٍ قال: «دخلتُ على يحيى بنِ سعيدٍ في مرضه فقال لي: «يا أبا بكرٍ، ما تركتَ أهلَ البصرة يتكلَّمون؟» قلت: «يذكرون خيرًا، إلَّا أنهم يخافون عليك مِنْ كلامك في الناس»؛ فقال: «احفَظْ عنِّي؛ لَأَنْ يكون خصمي في الآخرة رَجلٌ مِنْ عُرْض الناس أَحبُّ إلي مِنْ أَنْ يكون خصمي في الآخرة النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقول: بَلَغك عنِّي حديثٌ وَقَع في وهمك أنه عنِّي غيرُ صحيحٍ»، يعني: فلم تُنكِره»(٤).

هذا، وإنَّ ادِّعاءَ أنَّ الردَّ على المُخالِفين يُلهِي عن صالح الأعمال لَمِنَ الخطإ بمكانٍ، ينبغي على قائله أَنْ يُسارِع إلى التوبة منه؛ إذ إنَّ المُرابَطة على حدود العلم الشرعيِّ والنيلَ مِنْ كُلِّ مَنْ يدنِّسه بالبِدَع والمخالفات لهو مِنْ جنس الجهاد في سبيل الله ـ بل هو مِنْ أعظمِ الجهاد ـ وهو مِنَ الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو مِنْ أعظم الصالحات وأفضلِ القُرُبات؛ فإنَّ نَفْعَه مُتعَدٍّ، ويَلِجُه أهلُه وكُلُّهم فَرَحٌ وعِزٌّ بما أكرمهم اللهُ به واستعملهم فيه مِنَ الحِسْبة للذَّبِّ عن الشريعة وحَمَلتِها؛ فعن محمَّد بنِ يحيى الذُّهْليِّ قال: «سَمِعْتُ يحيى بنَ مَعينٍ يقول: «الذَّبُّ عن السنَّة أفضلُ مِنَ الجهاد في سبيل الله»، فقلتُ ليحيى: «الرَّجل يُنفِق مالَه ويُتعِب نَفْسَه ويجاهد؛ فهذا أفضلُ منه؟!» قال: «نعم بكثيرٍ»»(٥).

وفي هذا المَقام يقول ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «ومثل أئمَّة البِدَع مِنْ أهل المقالات المُخالِفة للكتاب والسنَّة أو العبادات المُخالِفة للكتاب والسنَّة؛ فإنَّ بيان حالهم وتحذيرَ الأمَّة منهم واجبٌ باتِّفاق المسلمين، حتَّى قِيلَ لأحمد بنِ حنبلٍ: «الرَّجل يصوم ويصلِّي ويعتكف أَحَبُّ إليك أو يتكلَّم في أهل البِدَع؟» فقال: «إذا قام وصلَّى واعتكف فإنما هو لنفسه، وإذا تكلَّم في أهل البِدَع فإنما هو للمسلمين؛ هذا أفضلُ»؛ فبيَّن أنَّ نَفْعَ هذا عامٌّ للمسلمين في دِينِهم مِنْ جنس الجهاد في سبيل الله؛ إذ تطهيرُ سبيلِ الله ودِينِه ومنهاجه وشِرعَتِه ودفعُ بغيِ هؤلاء وعدوانِهم على ذلك واجبٌ على الكفاية باتِّفاق المسلمين، ولولا مَنْ يُقيمُه اللهُ لدفعِ ضررِ هؤلاء لَفَسَد الدِّينُ، وكان فسادُه أعظمَ مِنْ فسادِ استيلاء العدوِّ مِنْ أهل الحرب؛ فإنَّ هؤلاء إذا استولَوْا لم يُفسِدوا القلوبَ وما فيها مِنَ الدِّين إلَّا تبعًا، وأمَّا أولئك فهُم يُفسِدون القلوبَ ابتداءً»(٦).

الموقف الثاني: زَعَم صاحبُ المَقال أنَّ العبرة ـ في الحكم على الجمعية ـ بقانونها لا برجالها الإداريِّين، قائلًا: «والانتساب إلى هذه الهيئاتِ تتوقَّف مشروعيَّتُه على ذلك القانون، فإِنْ كان باطلًا فالانخراطُ غيرُ جائزٍ، وإِنْ كان غيرَ مُخالِفٍ للشرع فهو تقويةٌ للتحالف المشروع القائم بين المؤمنين بمقتضى إيمانهم في التعاون على البِرِّ والتقوى..»

الجواب: إنَّ العبرة عند العلماء في الحكم على الجماعات أو الأشخاص: إنما تكون بالحقائق لا بالمُسمَّيَات، وهذا أسلوبٌ ربَّانيٌّ قرآنيٌّ، حيث ادَّعى قومٌ مَحبَّةَ الله فابتلاهم باتِّباع النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم إِنْ كانوا صادقين؛ لأنَّ الفعل حاكمٌ على قائله؛ قال تعالى: ﴿قُلۡ إِن كُنتُمۡ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحۡبِبۡكُمُ ٱللَّهُ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡ ذُنُوبَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورٞ رَّحِيمٞ ٣١﴾ [آل عمران]، والشأنُ ـ في ذلك ـ شأنُ أهل السنَّة في حكمهم على الطوائف والنِحَل مِنْ أهل الانحراف والبِدَع وسائرِ المِلَل، الذين يدَّعون أنهم مِنْ أهل السنَّة نسبةً؛ ومواقفُهم وأعمالُهُم مِنَ السوء بمكانٍ، فلم يَلتفِتِ العلماءُ لدعَاويهم بل حَكَموا عليهم بأقوالهم وأفعالهم.

وبناءً عليه: فإنَّ جمعيةً قانونُها المُسجَّلُ يخالف واقِعَها المُجسَّد، فالحكمُ عليها بما ظَهَر منها لا بما خَفِي؛ والواقع أنَّ الجمعية لها نشاطٌ مُكثَّفٌ ومُشارَكاتٌ عميقةٌ في انتشار المُخالَفات وفُشُوِّ البِدَع والمُنكَرات وسكوتٌ عليها؛ وبالمُقابِل لها عزوفٌ عن نشر التوحيد الخالص والسنَّة الصحيحة والدعوةِ إليهما؛ فأين حالُ الجمعيَّة الحاليَّة مِنْ وصايَا مؤسِّسها الأوَّل ـ رحمه الله ـ إذ يرسم مَعالِمَ دعوته قائلًا: «كانَتْ عبادةُ الأوثان في الجاهليَّة بالخضوع والتذلُّل لها، ورجاءِ النفع وخوفِ الضرِّ منها، فينذرون لها النذورَ وينحرون لها النحائرَ، يلطخونها بالدِّماء ويتمسَّحون لها؛ وفي الناس ـ اليومَ ـ طوائفُ كثيرةٌ لها أشجارٌ ولها أحجارٌ تُسمِّيها بأسماءٍ، وتذكرها بالتعظيم، وتذبح عندها الذبائحَ، وتُوقِد عليها الشموعَ، وتحرق عندها البخورَ، وتتمسَّح بها وتتمرَّغ عليها، مِثل فعلِ الجاهلية أو تزيد؛ فصَدَق عليهم قولُ(٧) رسولِ الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَحَتَّى يَعْبُدُوا الأَوْثَانَ» هذا كُلُّه واقعٌ في الأمَّة لا شكَّ فيه؛ وكما كان مِنْ نصحِ نبيِّها صلَّى الله عليه وآله وسلَّم أَنْ أَنذرَها بوقوعه فيها قبل وقوعه، فإنَّ مِنْ نصحِ علمائها لها أَنْ يعرِّفوها به ـ اليومَ ـ بعد وقوعه ويصوِّروه لها على صورته الشِّركيَّة الوثنيَّة التي ينفر منها المسلمُ بطبعه؛ ولو أنَّ الأمَّة سَمِعَتْ صيحاتِ الإنكار مِنْ كُلِّ ذي علمٍ لَأقلعَتْ عن ضلالها ورجعَتْ إلى رُشدها؛ فما أسعدَ مَنْ نَصَحها مِنْ أهل العلم وجاهد لإنقاذها! وما أشقى مَنْ غشَّها وزادها رسوخًا في ضلالها وتماديًا في هلاكها! فَحَيَّهَلَا على العمل أيُّها المُصلِحون الناصحون المُخلِصون؛ فإنَّ عهد الغشِّ والخديعة قد آذَنَ بذهاب، وإنَّ الله لا يهدي مَنْ هو مُسرِفٌ كذَّابٌ»(٨).

وهل سُمِع منهم في الفضائيَّات ـ وقد مُكِّنوا منها ـ وقُرِئ لهم في المكتوبات والمطبوعات ـ وقد سُخِّرَتْ لهم ـ وهل وُجِد لهم الْتزامٌ بما قرَّره ـ رحمه الله ـ عند إيرادِ حديثِ عائشةَ رضي الله عنها: أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ؛ فَأُولَئِكَ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ القِيَامَةِ»(٩)، حيث قال مُوصِيًا: «علينا أَنْ نصدِّق بهذا الحديثِ بقلوبنا فنَعلمَ أنَّ بناء المساجد على القبور مِنْ عملِ شِرَار الخَلْق كما وَصَفهم النبيُّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وأَنْ تنطق بذلك أَلسِنَتُنا كما نَطَق به هذا الحديثُ الشريف، وأَنْ نبنيَ عليه أعمالَنا، فلا نبنيَ مسجدًا على قبورٍ ولا نعينَ عليه، وأَنْ نُنكِره كما نُنكِر سائرَ المُنكَرات حَسَبَ جُهدنا؛ ومِنْ أعظم الإنكارِ: تبليغُ هذا الحديثِ بنصِّه، وتذكيرُ الناس به، والعملُ على نشره حتَّى يصير معروفًا عند عامَّة الناس وخاصَّتهم؛ إذ لا دواءَ للبِدَع الشيطانية إلَّا نشرُ السنَّة النبوية؛ ولا نَستعظِمِ انتشارَ هذه البدعةِ وكثرةَ ناصِرِيها؛ فإنها ما انتشرَتْ وكَثُرَ أهلُها إلَّا بالسكوت عن مثلِ هذا الحديث والجهلِ به»(١٠).

أم أنَّ أقلامهم لضربِ المتمسِّكين بالسنَّة قائمةٌ؟! وألسنتَهم في تشويهِ سُمْعة المُصلِحين فاشيةٌ؟! والإعراضَ عمَّنْ ينشر خلافَ الحديث الصحيح الصريح واضحةٌ؟! الجواب يعرفه كُلُّ منصفٍ حصيفٍ.

الموقف الثالث: زَعَم صاحبُ المَقال أنه لا فَرْقَ بين الدَّعوة إلى الله تحت غطاء الجهات الوصيَّة مِنْ وزارةٍ أو إدارةِ الجامعات، وبين الجمعيات الحزبيَّة؛ فقال: «ما الفرقُ بين مَنْ يدرِّس في مسجدٍ أو جامعةٍ أو ثانويةٍ أو مدرسةٍ أو غيرها ممَّا تُشرِف عليه الدولةُ، وبين مَنْ ينشط في نطاقِ هذه الجمعيَّة أو تلك؟ فهل الذين لهم حقُّ الإشراف على تلك الهيئاتِ ينبغي أَنْ يُصنَعوا على أعيُنِنا كي نقبل الأعمالَ التي يقوم بها مَنْ هم تحت إمرتهم حتَّى وإِنْ كانَتْ صوابًا؟! ما يُقالُ عن الدَّوائر الحكومية يُقالُ عن غيرها، بل هناك فروقٌ لصالح الدَّعويِّ لو عَقَل الناسُ، لا أُريدُ أَنْ أُطِيلَ بذِكرها، ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعقلون».

الجواب: هذا خلطٌ بين الحقِّ والباطل، وخبطٌ في التأصيل؛ سببُه ضعفٌ في تصوُّر المسائل على وجهها الشرعيِّ المُستمَدِّ مِنَ الأدلَّة القاضية بالتباين بين السنِّيِّ والمُخالِف له، والتفريقِ بين التعاون الأخويِّ الشرعيِّ والتكتُّل الحزبيِّ المَقيت؛ حيث فَرَّقَ الأمَّةَ شِيَعًا وأحزابًا، وما زادها إلَّا خبالًا على مَرِّ العصورِ وَكَرِّ الدُّهور؛ فإنَّ الدِّين أَمَرَنا بالاجتماعِ على عقيدةِ التوحيد وعلى مُتابَعةِ الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قال تعالى: ﴿وَٱعتَصِمُواْ بِحَبلِ ٱللَّهِ جَمِيعا وَلَا تَفَرَّقُواْ﴾ [آل عمران: ١٠٣]، وقال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُم وَكَانُواْ شِيَعا لَّستَ مِنهُم فِي شَيءٍ﴾ [الأنعام: ١٥٩]، وقال تعالى ﴿وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٣١ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢﴾ [الروم].

وعمومُ الجمعياتِ ـ مهما كانَتْ صِفَتُها ـ إذا عُقِدَ عليها الولاءُ والبراءُ والحبُّ والعداءُ، أو اتَّخذَتْ أقوالَ قادتِها ومُسَيِّرِيهَا أصولًا بلا دليلٍ، أو كان مِنْ مَبادِئِها التسليمُ بآراءِ الجماعةِ وجَعْلُها قطعيَّةَ الثبوتِ غيرَ قابلةٍ للنقاش أو النقد، ونحو هذه المعاني؛ فهي ـ بهذا الاعتبارِ ـ جمعيَّةٌ حزبيَّةٌ ولو وُسِمَتْ باسْمِ الإسلام؛ فهي مُشاقَّةٌ ومُحادَّةٌ لله ولرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ لأنَّ مِحْورَ الولاءِ والبراءِ هو الإيمانُ بالله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ قال تعالى: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَينَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم ١﴾ [الحُجُرات].

وأمَّا القياس على الدعوة في المساجد والجامعاتِ تحت الإدارة المُخالِفة فعينُ التسوية بين الحقِّ والباطل؛ لأنَّ ما يقوم به الحاكمُ مِنْ تنظيمِ المسلمين في شكلِ هيئاتٍ رسميَّةٍ كالوزارات والمؤسَّسات والجمعيَّات؛ فالعاملُ فيها يؤدِّي عملَه في المؤسَّسة الحكوميَّة ـ تعليميَّةً كانَتْ أو غيرَها ـ على وجهٍ تحكمه تنظيماتٌ ولوائحُ داخليَّةٌ لا تحمل الطابعَ الحزبيَّ أو العصبيَّ ـ على اختلافِ مَهَامِّها وأعمالِهَا المشروعةِ ممَّا يخصُّ الحياةَ الدِّينية والدُّنيوية، كالمؤسَّسات والجمعيات ذاتِ الطابع المِهَنيِّ أو الخيريِّ، ونحوِ ذلك ممَّا لا يُنافي شريعةَ الإسلامِ وأخلاقَها وآدابَها، ولا يَتعارَضُ مع مَقاصِدِها ومَراميها؛ فإنه يدخل تحت عمومِ التعاون الشرعيِّ الواردِ في قوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَٰنِ﴾ [المائدة: ٢]، ولا تَتناوَلُه النصوصُ التي تَذُمُّ الخروجَ عن وَحْدَةِ الأُمَّةِ التي أُمِرَتْ أَنْ تكون واحدةً؛ قال تعالى: ﴿وَإِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُم أُمَّة وَٰحِدَة وَأَنَا رَبُّكُم فَٱتَّقُونِ ٥٢﴾ [المؤمنون].

وعليه، فإنَّ مَجالَ التَّعاونِ الأخويِّ المُنْضَبِطِ بالشرع المَبْنيِّ على البِرِّ والتقوى مشروعٌ ومطلوبٌ، وما عَدَاهُ فمذمومٌ ومردودٌ(١١)؛ ومِنَ الظلم أَنْ يُقحَم ما هو مذمومٌ فيما هو ممدوحٌ، إلَّا عند مَنْ يتعامى عن الحقِّ ويريد أَنْ يُحِلَّ الشُّبهةَ ـ قسرًا ـ مَحَلَّ الدَّليل، وشتَّانَ ما بينهما!! قال ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ: «فمَنْ تعامى عن وصف الإيمان المُوجِب للاتِّحاد، ونَظَر إلى مذهبٍ أو مَشْرَبٍ مِنْ مُوجِبات الافتراق؛ فقَدْ عَصَى أبا القاسم صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، وحادَّ اللهَ ورسولَه، وأَعرضَ عن دعوة الحقِّ، وأجاب داعِيَ الشيطان»(١٢).

الموقف الرابع: اعترض صاحبُ المَقال على وصف الجمعيَّة الحاليَّة بأنها تُحارِب عقيدةَ التوحيد، وأَسهبَ في ذِكرِ ما تقوم به مِنْ أعمالٍ وتدريسٍ فقال: «إنه لَباطلٌ أَنْ يُقالَ: إنَّ جمعيَّة العلماء المسلمين الجزائريِّين تُحارِب عقيدةَ التوحيد؛ لَكأنَّ هذا القولَ اكْتِيَالٌ للرِّمال!! هو ـ واللهِ ـ ممَّا ينبغي أَنْ يتوب منه قائلُه، إلَّا أَنْ يكون سَبْقَ قلمٍ، أو هو يريد به ما لا نعرفه».

الجواب: إنَّ محاربة عقيدة التوحيد ليست قاصرةً على ما كان يفعله أهلُ الجاهليَّة الأولى مِنْ تعذيبٍ وتقتيلٍ وتشريدٍ، بل محاربةُ التوحيد لها صُوَرٌ متعدِّدةٌ منها: السكوتُ على مظاهر الشرك مع إمكان الإنكار، سواءٌ تعلَّق بشرك تعطيل الخالق الصانع عمَّا يجب على العبد المخلوق مِنْ حقيقة التوحيد: كمذهب الحلول والاتِّحاد عند الصوفية والفِرَق الباطنيَّة المُعاصِرة، والشِّركِ في ربوبيَّة الأنداد في صفة القدرة الكاملة لغير الله عند الصوفيَّة، ومختلف المُعتقَدات الباطلة عند الحداثيِّين، أو السكوت عن مظاهر الشِّرك فيما يتعلَّق بالعبادة: كشرك الطاعة في قَبول الحكم غير الشرعيِّ، أو في اتِّخاذِ تشريعات المتصوِّفة دِينًا مُلزِمًا، والشرك في المَحَبَّة والخوف والرَّجاء المُنتشِرة في عصرنا، والسكوت على بدعة المرجعيَّة الدِّينيَّة المتمثِّلة في الأشعريَّة والصوفيَّة والتعصُّب المذهبيِّ، وعرقلة الدَّاعِين إلى التوحيد، والتضييق عليهم بوجوه التضييق الحسِّيِّ والمعنويِّ: كاللَّمز والطعن تصريحًا تارةً وتلميحًا تاراتٍ أخرى، وتسليط المطاعن عليهم كوَسْمِهم بلقب الوهَّابيَّة أو المدخليَّة تنفيرًا وتأليبًا، ومحاربة أهله، والحَجْر عليهم، والتهوين مِنْ شأنِ مسائل العقيدة وقضايا التوحيد الكبرى، واللَّهج بفرية نسبة دعوة التوحيد إلى أشخاصٍ بأعيانهم وعُلماءَ بخصوصهم؛ بُغيةَ التشويه والتمويه جهلًا وإعراضًا عن الحقائق، قال ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ: «وقد أَوصلَ الجهلُ بكتاب الله بعضَ أَدعِياء العلم إلى أَنْ جعلوا الدَّعوةَ إلى توحيد الله ونبذِ ضروب الشرك: طريقةً خاصَّةً بابنِ تيمية، على معنَى أنها بدعةٌ حصلَتْ بعد انعقاد الإجماع! فمَنْ سَلَك هذه الطريقةَ فقَدْ عرَّض دِينَه للخطر، ولو نظروا في كتاب الله وتأمَّلوه لَوجدوا جُلَّ آياتِه دعوةً إلى التوحيد ونبذِ الشرك»(١٣).

الموقف الخامس: استدلَّ الكاتب على سلامة منهج الجمعيَّة الحاليَّة بالنشاط الخيريِّ في مَقرَّاتها فقال: «ماذا يُقالُ عن عشراتِ بل مئات الدُّعَاة والمعلِّمين والمدرِّسين الذين يقومون بأعمالٍ جليلةٍ لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس العقيدة وغيرِها مِنَ الموادِّ العلميَّة الشرعيَّة، وأحيانًا يكون ذلك ـ واللهِ ـ بكفاءةٍ عاليةٍ، أفيصدق أَنْ يكون غرضُ هؤلاء محاربةَ عقيدة التوحيد؟! فما عقيدتُهم إذن؟!»

الجواب: إنَّ تدريس كُتُب السنَّة في بعضِ مَقرَّات الجمعية مِنْ بعضِ مدرِّسيها لا يُعَدُّ معيارًا ينسحب على كُلِّ مَقرَّاتها؛ ففي مُقابِل ولايةٍ واحدةٍ ذَكَرها الكاتبُ، عِدَّةُ ولاياتٍ تقرِّر تدريسَ كُتُب الأشاعرة؛ والعبرةُ بالغالب الأعمِّ لأنَّ النادر لا حُكمَ له.

هذا، وإنَّ تحفيظ القرآن وتعليمَه ممَّا يُرغَّب فيه ويُثلِج الصدر، ولكِنْ ليس المقصودُ مِنْ قراءة القرآن وتحفيظِه إنشاءَ جيلٍ وتكوينَ نشءٍ يردِّد القرآنَ تردادًا لا يفهم معناه ولا يَلتزِم مبناه، بل المقصود الأسمى والعبرةُ العظمى مِنْ تعليم القرآن ونشرِه: أَنْ يظهر أثرُ الوحي على قارئه وحافظه اعتقادًا وعملًا وسلوكًا وأخلاقًا؛ لأنَّ عدم التجانس بين حفظ القرآن والعملِ به ـ بل بخلافه ـ له الأثرُ العكسيُّ العميق للحكمة مِنْ إنزال القرآن الكريم؛ وبذلك يكون القرآنُ حجَّةً على قارئه لا حجَّةً له؛ لقوله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»(١٤)؛ فماذا تستفيد الأمَّةُ مِنْ حَفَظةٍ همُّهم ختمُ القرآنِ هذًّا كهذِّ الشِّعر عند القبور والأضرحة، وفي المواسم الشِّركية والأعيادِ البدعيَّة؟ وأيُّ عِزٍّ وشرفٍ لمَنْ يحفظ القرآنَ على هيئاتٍ ما أَنزلَ اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، كحلقات القراءة الجماعيَّة بصوتٍ واحدٍ يملؤها مُحلِّقوها ضحكًا واستهتارًا وسُخرِيةً لا يظهر عليهم خشوعُ القراءة ولا أثرُ التلاوة؟! وأفظعُ ما يُخشى ـ مِنْ وراء ذلك ـ: أَنْ ينشأ جيلٌ مِنَ الحَفَظة على غيرِ الوجه المَرْضيِّ، يصدق فيهم قولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلمَّ محذِّرًا: «إِنَّ أَكْثَرَ مُنَافِقِي أُمَّتِي قُرَّاؤُهَا»(١٥).

قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «والمقصود: التلاوةُ الحقيقية، وهي تلاوةُ المعنى واتِّباعُه تصديقًا بخبره وائتمارًا بأمره وانتهاءً بنهيه وائتمامًا(١٦) به، حيث ما قادك انقَدْتَ معه؛ فتلاوةُ القرآن تتناول تلاوةَ لفظِه ومعناه، وتلاوةُ المعنى أشرفُ مِنْ مجرَّد تلاوة اللفظ، وأهلُها هم أهلُ القرآن الَّذين لهم الثناءُ في الدنيا والآخرة؛ فإنهم أهلُ تلاوةٍ ومتابعةٍ حقًّا»(١٧).

وهل كانت الجمعيَّة الباديسيَّةُ إلَّا حربًا على الطُّرُق الصوفيَّة والزوايا البدعيَّة، مع  شدَّةِ حِرْصِ تلك الطُّرُقِ على تحفيظ القرآن وتخريجِ الحَفَظة؛ وذلك لتزهيدِها وصدِّها عن ترغيبهم وتَنشِئَتِهم على تَفهُّمِ القرآن والعملِ بما حَفِظوه منه، وكانت ـ لله دَرُّها ـ تَعلمُ ـ عِلمَ اليقينِ ـ أنَّ الطُّرُقيَّة تُخفي شرَّها وضررَها خلف تعليم القرآن ونشرِه على الألسنة دون وصولِ نوره وضيائه للقلوب دواءً وشفاءً، قال محمَّد البشير الإبراهيميُّ ـ رحمه الله ـ: «إنَّ أعظمَ مُصيبةٍ أصابَتِ المسلمين ـ وهي جفاؤهم للقرآن وحِرْمانُهم مِنْ هديه وآدابه ـ منشؤها مِنَ الطُّرُق؛ فهي التي غشَّتِ المسلمين لأوَّلِ ما طاف بهم طائفُها؛ وغَشِيَتْهم بهذه الروحِ الخبيثة: روحِ التزهيد في القرآن؛ وكيف لا يزهد المسلمون في القرآن وكُلُّ ما فيه مِنْ فوائدَ وخيراتٍ وبركاتٍ قد انتزعَتْها منه الطُّرُقُ، وجرَّدَتْه منها ووضعَتْه ـ في أورادها المُبتدَعة ورسومِها المُخترَعة، ونحلَتْه شيوخَها ومقدَّمِيها وصعاليكَها؟!»(١٨).

وهكذا خاف السلفُ مِنَ المسارعة إلى حفظ حروف القرآن وتضييع حدوده، قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «قَدِمَ على عمر بنِ الخطَّاب رَجلٌ، فجعل عمرُ يسأله عن الناس، فقال: «يا أمير المؤمنين، قد قَرَأ القرآنَ منهم كذا وكذا»، فقال ابنُ عبَّاسٍ: فقلت: «واللهِ ما أُحِبُّ أَنْ يتسارعوا ـ يومَهم هذا ـ في القرآن هذه المسارعةَ»، قال: فزَبَرني عمرُ وقال: «مَهْ»، فانطلقتُ إلى منزلي مُكتئِبًا حزينًا، فبَيْنَا أنا كذلك إذ أتاني رَجلٌ فقال: «أَجِبْ أميرَ المؤمنين»، فخرجتُ فإذا هو بالباب ينتظرني، فأخَذَ بيدي فخَلَا بي فقال: «ما الذي كَرِهْتَ؟» قلت: «يا أميرَ المؤمنين، متى يتسارعوا هذه المسارعةَ يحتقَّوا(١٩)، ومتى ما يحتقُّوا يختصموا، ومتى ما يختصموا يختلفوا، ومتى ما يختلفوا يقتتلوا»، قال: «لله أبوك، واللهِ إِنْ كنتُ لَأكتمُها الناسَ حتَّى جِئتَ بها»»(٢٠).

الموقف السادس: في قول الكاتب ـ هداه الله ـ: «ولْأذكُرْ ما أعرفه في ولايةٍ واحدةٍ مِنَ العناية بالتوحيد، فمِنْ ذلك تدريسُ «عقيدةِ ابنِ أبي زيدٍ»، و«عقيدة الطحاويِّ»، وكتابِ «الشِّرك ومظاهره» للشيخ مبارك الميلي، و«العقائد الإسلامية» للشيخ ابنِ باديس، وكتاب «التوحيد» مِنْ «صحيح البخاري»، و«القصيدة اللاميَّة» لابن تيميَّة، و«منهج الحقِّ» للشيخ السعدي وغير ذلك، وهذا في ولايةٍ واحدةٍ؛ فكيف بمئات المدرِّسين في بقيَّة الولايات؟!»

الجواب: إنَّ العلم الشرعيَّ ينبغي أَنْ تظهر ثمارُه على طالبيه فيتميَّزوا بضياء العلم عن ظُلُمات الجاهلين، وبقَبَس السنَّة عن ضباب البدعة، فينأَوْا بأَنْفُسهم أَنْ يدرِّسوا كُتُبَ العلم الشرعيِّ تحت شعاراتِ جمعيَّاتٍ حزبيَّةٍ بدعيَّةٍ، ويُقالُ لهؤلاء المدرِّسين ولمَنْ يشجِّعهم ويترأَّسهم ببثِّ الشُّبُهات: أرأيتم لو أنَّ مؤسَّسةً ربويَّةً، أو مجمعًا للنوادي الشهوانيَّة فتحَتْ مَقرَّاتِها ومَجامِعَها لتدريس العلم الشرعيِّ يعلو مَقرَّاتِها شعاراتُها وما به تُعرَف، مسهِّلةً كُلَّ الظروف للطلبة، رافعةً كُلَّ الحواجز والموانع عنهم، أكنتم تدرِّسون فيها؟! فإِنْ كان الجوابُ بنعم، فهذا ـ لَعمرُ اللهِ ـ الخزيُ والعار، والإسهامُ في نشر السوء والرذيلة بتزكِيَتها وتلميعِ صُورَتِها، وإِنْ كان الجوابُ بالنفي ـ وذلك الظنُّ بطلبة العلم ـ  فإنَّ التدريس تحت شعار الجمعيَّات الحزبيَّة أخطرُ وأنكى بأهل السنَّة؛ لِمَا هو معلومٌ لدى السُّنِّيِّين ـ بالضرورة ـ أنَّ البدعة أخطرُ مِنَ المعصية وأَحبُّ إلى إبليس.

فإِنْ أَبَى مَنْ أَبَى إلَّا ركوبَ موجةِ التساهل مع الجمعيَّات البدعيَّة فلْيَكُنْ في العلم والحسبان أنَّ ما يتمُّ تدريسُه مِنْ علمٍ شرعيٍّ سيصير قوَّةً ضِدَّ التأصيلات المُجانِبة للصواب والمُنبثِقة مِنْ خلالِ تلك المَقرَّات، وسيكون ـ بإذن الله تعالى ـ كاشفًا للانحراف والضلال؛ ذلك لأنَّ ميثاق العلم الشرعيِّ مأخوذٌ على طُلَّابه وأهلِه أَنْ يُظهِروه على وجهه المُشرِق تعليمًا وتربيةً؛ فإِنْ كان كذلك فإنَّ طريق الحقِّ تأخذ عُلُوًّا صاعدةً بصاحبها إلى العليِّ الكبير، وإِنْ كانَتِ الأخرى فإنَّ طريق الضلال تأخذ سفلًا هاويةً بسالكها في أسفل سافلين؛ وفي مَعرِضِ بيان العلاقة التلازمية بين العلم الشرعيِّ والتطبيق العمليِّ لتعاليمه يقول العلَّامة ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ: «بقَدْرِ ما كان تمسُّكُ الأمَّة بأسباب العلم كان رفضُها للجمود والخمود والخرافات والأوضاع الطُّرُقيَّة المتحدِّرة للفَناء والزوال؛ حتَّى أصبح القُطرُ الجزائريُّ كُلُّه يكاد لا تخلو بيتٌ مِنْ بيوته ممَّنْ يدعو إلى الإصلاح، ويُنكِر الجمودَ والخرافة، ومظاهرَ الشِّرك القوليِّ والعمليِّ، وأصبحَتِ البِدَعُ والضلالات تجد ـ في عامَّة الناس ـ مَنْ يُقاوِمُها وينتصر عليها؛ ومِنْ أجملِ مظاهر انتشار الإصلاح وانتصاره: أنَّ خصومه ـ بعد ما كانوا يقاومون ما يدعو إليه مِنْ نشر التعليم بالعرقلة والتزهيد ـ أصبحوا لا يستطيعون أَنْ يظهروا للأمَّة إلَّا بمَظهَرِ المُعلِّمين؛ فهُم لأجلِ حفظِ مراكزهم ـ اليومَ ـ مُضطَرُّون لتأييد العلم ـ ولو ظاهرًا ـ العلم الذي يقضي عليهم في المُستقبَل بإذن الله؛ نعم، هنالك طائفةٌ مِنَ المُنتسِبين للعلم ومِنْ طلبة القرآن معروفون عندنا بأسمائهم يتستَّرون باسْمِ العلم والقرآن، ويَبثُّون في الناس ما يتبرَّأ منه العلمُ والقرآن؛ ولعلَّ هذه السَّنَةَ تكون سَنَتَهم؛ فيَستنزِلُهم المُصلِحون للميدان؛ ليعرفوا الحقَّ فيكونوا مِنْ أنصاره، أو يُكابِروا فيه فيعرفَهم الناسُ فيحذروهم ويتَّقوا شَرَّهم»(٢١).

الموقف السابع: إنَّ فهم منهج أهل السنَّةِ الفهمَ الصحيحَ لَينأَى بالسنِّيِّ أَنْ يُلقِيَ بنفسه بين أحضانِ مَنِ اتَّخذ الأشعريَّةَ عقيدةً، والتعصُّبَ لأقوال الفقهاءِ مذهبًا، والتصوُّفَ مسلكًا ومَشرَبًا؛ ذلك لأنَّ السنَّة والبدعةَ نقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان في آنٍ واحدٍ، وإنَّ عقيدة الولاء والبراء لَتأبى لحاملِها التعاونَ والاجتماعَ الطوعيَّ الاختياريَّ مع مَنْ لا يُعرَف عنه غيرةٌ حاميةٌ لجناب التوحيد، ولا الدعوةُ إليه وتعليمُه للناس؛ ولو كان الصدقُ في الانتماء إلى الجمعيَّة الأُولى حليفَ الجمعيَّة الثانية لَرَسَموا مَعالِمَ دعوتهم بناءً على ما أَوصى به مؤسِّسُها.

كما أنَّ التعقُّب على مقالات المُصلِحين لِمَا فسَدَ مِنِ اعتقادات الناس، الناصحين لغيرهم، المحذِّرين مِنْ طُرُق أهل الغواية لَهُوَ لونٌ مِنْ ألوان التخذيل، ونوعٌ مِنْ أنواعِ ترك النصرة المَنْهيِّ عنه في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ»(٢٢).

وحالُ مُنتحِلِ منهج التخذيل كحالِ مَنْ يُبصِر مُجاهِدًا شاهرًا سلاحَ الحقِّ وسيفَ العزَّة في سبيل الله يقطع به دابِرَ الصائل مِنْ أهل الباطل، فيَعمِد إلى غدره بالطعن خَلْفَه ظِهْرِيًّا، أو قطعِ المَدد عنه، أو حجزِه عن الاستعانة بما فيه نصرُه وظهورُه على أعدائه ومُبغِضيه؛ ولَرُبَّما كان ذلك أخطرَ وأَشدَّ فسادًا؛ لِمَا يَئُولُ إليه مِنْ تقوِيَةِ شوكة المُعادِين والنفخِ في صولة الباطل، يستعلي أهلُه به على أهل الحقِّ ودعوتِهم، ويمدُّهم بما يحسبونه حجَّةً يستعينون بها على تشويهِ سُمعة أهل السنَّة، وتعكيرِ صفوِ سلطان العلم وحجَّة البيان، وقد أَحسنَ مَنْ قال:

مَتَى يَبْلُغُ البُنْيَانُ يَوْمًا تَمَامَهُ ** إِذَا كُنْتَ تَبْنِيهِ وَغَيْرُكَ يَهْدِمُ

والعجبُ كُلُّ العجب ممَّنْ يدّعي أنه مِنْ أهل السنَّة السلفيِّين، وقد حَشَدَ قلمَه وبيانَه، فلا يذكرهم ـ حين يذكرهم ـ إلَّا ولسانُه يجري بمَثالِبهم ـ زَعَم ـ ولا يتعرَّض لهم إلَّا بالتنقيص والعيبِ والقدحِ والانتقاد، وإذا جاء ذِكرُ المُخالِفين فالمدحُ شِيمتُه، والثناءُ لُغَتُه، وتكلُّفُ العثور على الأعذار لهم شِعارُه ودِثارُه!! فهل يُعقَل أَنْ يصدر مِثلُ هذا ممَّنْ أُشرِبَ قلبُه حُبَّ السلف نشأةً وتربيةً، أم هو مسلكُ مَنْ يُبصِرُ القذاةَ في أَعْيُنِ إخوانه تخوينًا، ويتعامى على الجذع الذي يعلو وجوهَ الخصوم تعظيمًا، فيَكِيل لهم التقديرَ والاحترام جُزافًا واحتفاءً.

قال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «فإنَّ توقيرَ صاحبِ البدعة مظنَّةٌ لِمَفسدتَيْن تعودان على الإسلام بالهدم: إحداهما: الْتِفاتُ الجُهَّال والعامَّةِ إلى ذلك التوقير، فيعتقدون في المُبتدِع أنه أفضلُ الناس، وأنَّ ما هو عليه خيرٌ ممَّا عليه غيرُه، فيؤدِّي ذلك إلى اتِّباعه على بدعته دون اتِّباعِ أهل السنَّة على سنَّتهم. والثانية: أنه إذا وُقِّر مِنْ أجل بدعته صار ذلك كالحادي المحرِّض له على إنشاء الابتداع في كُلِّ شيءٍ وعلى كُلِّ حالٍ؛ فتَحْيَا البِدَع وتموت السُّنَنُ، وهو هدم الإسلام بعينه»(٢٣).

وفي مَعرِضِ بيانِ علامات القلب السليم يقول ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فأَسلمَ لربِّه انقيادًا وخضوعًا وذُلًّا وعبوديةً، وسلَّم جميعَ أحوالِه وأقوالِه وأعمالِه وأذواقِه ومَواجيدِه ـ ظاهرًا وباطنًا ـ مِنْ مِشكاةِ رسولِه، وعَرَض ما جاء مِنْ سِوَاها عليها، فما وافقها قَبِلَه وما خالفها ردَّه، وما لم يتبيَّن له فيه مُوافَقةٌ ولا مُخالَفةٌ وَقَف أَمْرَه وأَرجأَه إلى أَنْ يتبيَّن له، وسالَمَ أولياءَه وحِزبَه المُفلِحين الذَّابِّين عن دِينِه وسنَّةِ نبيِّه القائمين بها، وعادى أعداءَه المُخالِفين لكتابه وسنَّةِ نبيِّه الخارجين عنهما الدَّاعين الى خلافهما»(٢٤)

ولكِنْ سُرْعانَ ما تزول الغرابةُ حين يُعلَم أنَّ الاحتكاك بالمُعادِين، ومُلازَمةَ المُخالِفين، يُطفِئ نورَ الإنكار عليهم، ويحجب ضياءَ الاستعلاء بالحقِّ، ويحجز شُعاعَ الفخر بعزَّةِ أهل الحقِّ المُصلِحين.

عن عَمْرِو بْن قَيْسٍ المُلَائِيِّ قال:  «إِذَا رَأَيْتَ الشَّابَّ ـ أَوَّلَ مَا يَنْشَأُ ـ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فَارْجُهُ،  فَإِذَا رَأَيْتَهُ مَعَ أَهْلِ الْبِدَعِ  فَايْأَسْ مِنْهُ؛ فَإِنَّ الشَّابَّ عَلَى أَوَّلِ نَشْئِهِ»(٢٥)؛ ولهذا اشتدَّ نكيرُ السلف تحذيرًا مِنِ اتِّخاذِ أهل البِدَع بِطَانةً وجُلَساءَ، قال ابنُ عونٍ ـ رحمه الله ـ: «مَنْ يجالس أهلَ البِدَع أَشدُّ علينا مِنْ أهل البِدَع»(٢٦).

هذا، وإنَّ الشفقة على الأمَّة مِنَ التردِّي في مزالق الانحراف ومَجاري الهوى، هو الذي يدفع الصادقَ إلى تحذيرها ممَّنْ يقطع عليها طريقَها الأخرويَّ، ويسلبهَا معرفةَ دِينها كما أُنزِلَ، فيتحرَّى لها دواءً يعصمها، وترياقًا يَقِيها مِنْ لَدَغاتِ مَنْ يلدغها في أَعزِّ ما تملك وأسمى ما تحوز، خلافًا لمَنْ يَحيدُ بها عن الطريقِ ويشغلها عمَّا ينفعها؛ ويتهجَّم على المُشفِقين ويشوِّش عليهم، ويُحجِم ـ في الوقتِ ذاتِه ـ عن خوضِ مجالات الرِّفعة والرُّقِيِّ؛ فذلك مِنَ الإزراء بها والاحتقارِ لها؛ قال العلَّامة ابنُ باديس ـ رحمه الله ـ: «على مَنْ يريد أَنْ يُرشِد المسلمين ويعملَ لإصلاح حالهم: أَنْ ينظر إليهم بعين الشفقة والحنانة، لا بعين الزراية والاحتقار؛ فإنَّ الشَّفوق تدفعه شفقتُه إلى المبالغة في العناية بتتبُّع الأدواء واستقصاءِ أنواع العلاج؛ بخلاف الزاري المُحتقِر، فإنه يترفَّع بنفسه عن الناس، ويتركهم فيما هم عليه، وإِنْ باشرَ شيئًا مِنْ معالجتهم فإنه يباشره مِنِ استثقالٍ واشمئزازٍ، لا يَصِل معهما إلى داء الأمَّة شيءٌ مِنْ علاجه، ولن يستطيع ـ هو معهما ـ صبرًا على الاستمرار في عمله، أو على إتقان القليل منه؛ على أنَّ الشَّفوق تشعر نفوسُ الأمَّة منه بتلك الشفقة فتُقابِلُه بمثلها، وبالامتثال لِمَا يأتيها منه لمعالجتها، واثقةً منه بنصحه، مُنْقادةً لإرشاده، راجيةً نيل الخير على يده؛ والزاري المُحتقِرُ تشعر منه الأمَّةُ بذلك فتُقابِله بمثله وتنقبض نفوسُها عنه، وتقوى رِيبَتُها في قوله وفعلِه، وقد تُصارِحُه ببعضه، فتؤدِّي الحالُ بينهما إلى العداوة والمقاطعة، ويكون خيرًا له لو تَرَكهم مِنْ أوَّل الأمر وشأنَهم»(٢٧).

اللهم ارْزُقْنا الإخلاصَ في الأقوال والأعمال، والصدقَ في الحال والمآل، والمَظْهَر والمَخْبَر، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلَّم تسليمًا.

الجزائر في: ٢٠ شعبان ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٦ ماي ٢٠١٨م





(١) «مدارج السالكين» (١/ ٣٧٨).
(٢) يقول ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «فالمُرصَدون للعلم عليهم للأمَّة حفظُ علمِ الدِّين وتبليغُه؛ فإذا لم يبلِّغوهم عِلمَ الدِّين أو ضيَّعوا حِفظَه كان ذلك مِنْ أعظم الظلم للمسلمين؛ ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩[البقرة]؛ فإنَّ ضررَ كتمانِهم تعدَّى إلى البهائم وغيرها، فلَعَنهم اللاعنون حتَّى البهائم؛ كما أنَّ مُعلِّمَ الخيرِ يُصلِّي عليه اللهُ وملائكتُه، ويَستغفِرُ له كُلُّ شيءٍ حتَّى الحيتانُ في جوف البحرِ والطيرُ في جوِّ السماء» [«مجموع الفتاوى» (٢٨/ ١٨٧)].
(٣) «سِيَر أعلام النُّبَلاء» للذهبي (١٤/ ٣٩).
(٤) «الكامل في ضُعَفاء الرِّجال» للجرجاني (١/ ١٨٦).
(٥) «سِيَر أعلام النُّبَلاء» للذهبي (٨/ ٥١٦).
(٦) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٢٣٢).
(٧) لعلَّها سقطت مِنَ المطبوع.
(٨) «آثار ابن باديس» (٢/ ٢٣٩).
(٩) أخرجه البخاريُّ (٤٢٧) ومسلمٌ (٥٢٨).
(١٠) «آثار ابن باديس» (٢/ ٢٤٨).
(١١) انظر الفتوى الموسومة ﺑ: «في حكم إنشاء جمعية خيرية دعوية» ورقمها: (٧٤٤).
(١٢) «آثار ابن باديس» (٢/ ١٥٧).
(١٣) «آثار ابن باديس» (٢/ ٣٢١).
(١٤) أخرجه مسلمٌ (٢٢٣) مِنْ حديثِ أبي مالكٍ الأَشعَرِيِّ رضي الله عنه.
(١٥) أخرجه أحمد (٦٦٣٣) مِنْ حديث عبد الله بنِ عَمْرِو بنِ العاص رضي الله عنهما. وصحَّحه أحمد شاكر (٦/ ١٩٣)، والألبانيُّ في «الصحيحة» (٧٥٠).
(١٦) وفي المطبوع: «ائمامًا»، ولعلَّ الصوابَ ما أثبَتْناه.
(١٧) «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (١/ ٤٢).
(١٨) «آثار الإبراهيمي» (١/ ١٧٠).
(١٩) يحتقُّوا: يقول كُلٌّ منهم: الحقُّ في يدي ومعي، [انظر: «سِيَرأعلام النُّبَلاء» للذهبي (٣/ ٣٤٨)].
(٢٠) أخرجه أبو نُعَيْمٍ في «الحِلْية» (٩/ ٢١٦)، وعبد الله بنُ الإمام أحمد في «السنَّة» (١/ ٣٣).
(٢١) «آثار ابن باديس» (٤/ ٣٥٩).
(٢٢) أخرجه البخاريُّ (٢٤٤٢)، ومسلمٌ (٢٥٨٠).
(٢٣) «الاعتصام» للشاطبي (١/ ٢٠٢).
(٢٤) «مفتاح دار السعادة » لابن القيِّم (١/ ٤٢).
(٢٥) «الإبانة الكبرى» لابن بطَّة (٢/ ٤٨١).
(٢٦) المصدر السابق (٢/ ٤٧٣).
(٢٧) «آثار ابن باديس» (٢/ ١٦٧).

الخميس، 5 أبريل 2018

في حكم التختُّم بالحديد والمعادن الأخرى

السؤال:
ما حكمُ التختُّم بغير الفضَّة (للرجال) مِنَ المعادن الأخرى كالحديد والبلاتين... وغيرِها. و:جزاكم الله خيرًا.
الجواب
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فالتختُّم بالحديد والصُّفْرِ (وهو النحاسُ)(١) حُكْمُه التحريم للرجال والنساء جميعًا، وهو مذهبُ الأحناف(٢)، وهو مكروهٌ عند المالكية(٣) لكونه شرًّا مِنْ خاتم الذهب مِنْ جهةٍ، ولأنه زِيُّ أهل النار مِنْ جهةٍ ثانيةٍ، كما ثَبَت ذلك مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما: «أَنَّ النَّبِيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم رَأَى عَلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ؛ فَأَلْقَاهُ وَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ، فَقَالَ: «هَذَا شَرٌّ، هَذَا حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ»؛ فَأَلْقَاهُ فَاتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ فَسَكَتَ عَنْهُ»(٤).
وينتفي التعارضُ مع قوله صلَّى الله عليه وسلَّم في قصَّة المرأة التي أراد النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أَنْ يزوِّجها أحَدَ أصحابه، ولم يكن عنده مهرٌ لها: «الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ»(٥)، حيث استُدلَّ به على جواز التختُّم بالحديد؛ لأنه لو كان ثَمَّ كراهةٌ لَمَا أشار النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بالْتماسه، ووجهُ التعارض يزول بحمله على ما كان قبل التحريم إذا ما سلَّمْنا نصِّيَّتَه على إباحة الحديد، وهو ليس نصًّا في إباحته؛ لاحتمالِ أنه أراد وجودَه لتنتفع المرأةُ بقيمته على ما بيَّنه ابنُ حجرٍ في «الفتح»(٦)؛ إذ لا يَلْزَم مِنْ جواز الاتِّخاذِ جوازُ اللُّبس، وإذا لَزِم الترجيحُ ـ حالَ فرضية تعذُّر الجمع السابق بين المتعارضَيْن ـ وَجَب العملُ بالدليل الرافعِ للبراءة الأصلية وتقديمُه على الدليلِ المقرِّر لها، أي: أنَّ النهي مقدَّمٌ على الإباحة والجوازِ كما هو مقرَّرٌ في القواعد.
هذا، والحكم بمنع الخاتم مِنَ الحديد فيما إذا كان خالصًا صِرْفًا، أمَّا إذا كان محلًّى بما هو جائزٌ كالفضَّة فالظاهرُ جوازُه لِمَا أخرجه أبو داود مِنْ أنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان خاتمُه «حَدِيدًا مَلْوِيًّا عَلَيْهِ فِضَّةٌ»(٧)، وتقريرُ هذا التفصيلِ جمعًا بين الدليلين وتوفيقًا بين متعارضين، والعملُ بالجمع واجبٌ مهما أمكن، وإلَّا ﻓ «النَّهْيُ مُقَدَّمٌ عَلَى الإِبَاحَةِ» وكذا «القَوْلُ مُقَدَّمٌ عَلَى الفِعْلِ» ـ كما هو معلومٌ في أصول الترجيح ـ في حالةِ تعذُّر العمل بالجمع.
هذا، ويُلْحَقُ بالخاتم مِنْ حديدٍ كُلُّ ما يُلْبَس مِنَ المعادن المعدودة مِنْ حليةِ أهل النار لعلَّةِ تحريم التشبُّه بهم، والظاهرُ أنَّ النحاس والصُّفْر معدودٌ مِنْ لباسهم على ما وَرَد مِنْ تفسيرٍ للآية: ﴿فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ قُطِّعَتۡ لَهُمۡ ثِيَابٞ مِّن نَّارٖ[الحج: ١٩] على أنها ثيابٌ مِنْ نحاسٍ مفصَّلةٌ مِنَ النار لكونه أشدَّ حرارةً إذا حَمِيَ(٨).
أمَّا ما لم يكن مِنْ زِيِّ أهل النار فالراجحُ جوازُه إذا لم يكن على وجهٍ يختصُّ بالنساء؛ إعمالًا للأصل في العادات والأشياءِ المنتفَعِ بها أنه على الإباحة.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٠٣ رجب ١٤٢٠ﻫ
الموافق ﻟ: ١٣ أكتوبر ١٩٩٩م


(١) انظر: «مقدِّمة فتح الباري» لابن حجر (١٤٤).
(٢) انظر: «الهداية» للمرغيناني (٤/ ٨٢).
(٣) انظر: «الفواكه الدواني» للنفراوي (٢/ ٤٠٤).
(٤) أخرجه أحمد (٦٥١٨) مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما. وصحَّحه الألبانيُّ في «غاية المَرام» (١/ ٦٧).
(٥) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «النكاح» بابٌ: السلطان وليٌّ (٥١٣٥)، ومسلمٌ في «النكاح» (١٤٢٥)، مِنْ حديثِ سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما.
(٦) «فتح الباري» لابن حجر (١٠/ ٣٢٣).
(٧) أخرجه أبو داود في «الخاتم» بابُ ما جاء في خاتم الحديد (٤٢٢٤)، والنسائيُّ في «الزينة» بابُ لُبْسِ خاتمِ حديدٍ ملويٍّ عليه بفضَّةٍ (٥٢٠٥)، مِنْ حديث مُعَيْقيبٍ رضي الله عنه. وقد ذَكَر الحافظ ابنُ حجرٍ ـ رحمه الله ـ في «فتح الباري» (١٠/ ٣٢٢) لهذا الحديثِ ثلاثةَ شواهد، وحسَّنه الألبانيُّ بشواهده في «آداب الزفاف» (٢١٩).
(٨) انظر: «تفسير ابن كثير» (٣/ ٢١٢).

تفنيد شبهة الملبِّسين بإيراد أسماء المخالفين

السؤال:
وَجَد بعضُ الملبِّسين مِنَ المُخالِفين في موقعكم شيخَنا ـ حفظكم الله ـ أسماءً في مَعرِض الثناء على بعضِ مَنْ تُكُلِّم فيهم ﻛ: بن حنفيَّة الذي عددتموه مِنْ أعيانِ دُعَاة منطقته، كما عددَتْم ـ أيضًا ـ سليمًا الهلاليَّ مِنَ الدُّعَاة السلفيِّين، كما نقلتم عن ابنِ جبرين وبكر أبو زيد في مواضعَ مِنْ رسائلكم وفتاواكم، وكذا البرَّاك وغيرهم مِنَ الذين رُمُوا بالقطبيَّة الإخوانيَّة؛ واتَّخذ الملبِّسون ذلك مطيَّةً لانتقادِ شخصكم؛ بالإضافة إلى موضوعٍ أثاره بعضُ المحرِّضين في الداخل والخارج يتعلَّق بمشايخ المدينة، زعموا فيه أنَّ كلامًا يُنسَب إلى شخصكم الكريم فيه انتقاصٌ لهؤلاء المشايخ، فهل مِنْ توضيحٍ مِنْ فضيلتكم!! وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فأمَّا الثناء على بن حنفيَّة عابدين الذي وَرَد في ثنايا جوابي على الوثيقة المتداوَلة ـ آنَذاك ـ فإنَّما كان ذلك زمنَ تكذيب النصيحة المزعومة منذ حوالَيْ ١٤ سنةً خلَتْ، أي: في تاريخ (١٥ ربيع الثاني ١٤٢٥ﻫ ـ ٣ جوان ٢٠٠٤م) حيث كان مُعظَمُ الأئمَّة والدُّعَاة يُحسِنون الظنَّ به بعد نبذِه للحزبيَّة الممقوتة وتوبتِه منها واندماجِه مع الإخوة السلفيِّين، بحسَبِ ما كان يَصِلُهم في شأنه آنَذاك؛ وذِكرُه في أعيانِ دُعَاة المنطقة هو مجرَّدُ وصفٍ لا يَلزَمُ منه ثناءٌ ولا تعديلٌ ولا تزكية.
والكلام في سليمٍ الهلاليِّ كالكلام في سابقه مِنْ حيث الوصفُ وتقدُّمُ التاريخ.
وأمَّا الاستفادة مِنْ كُتُب العلماء المُخالِفين أو المُتكلَّم فيهم سواءٌ مِنْ علماء المملكة أو مِنْ غيرهم، فإنَّ الاستفادة لمَنْ كان متشبِّعًا بالعلم الشرعيِّ الصحيح، ويملك آلةَ التمييزِ بين الحقِّ والباطل والهدى والضلال فهذا لا يمتنع عليه أَنْ يأخذ مِنْ كُتُب المُخالِفين وغيرِهم مقدارَ حاجته؛ فقَدْ كان مِنْ عدلِ سَلَفِنا الصالح قَبولُ الحقِّ مِنْ أيِّ جهةٍ كان؛ إذ لا أثرَ للمتكلِّم بالحقِّ في قَبوله ورفضه؛ ولذلك استفاد علماؤنا مِنْ كُتُبِ ابنِ حجرٍ والنوويِّ والقرطبيِّ والغزَّاليِّ مِنَ الأشاعرة وغيرهم؛ وفي هذا السياقِ
 قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «فمَنْ هَدَاهُ اللهُ سبحانه إلى الأخذ بالحقِّ حيث كان ومع مَنْ كان ولو كان مع مَنْ يبغضه ويُعاديه، وردِّ الباطل مع مَنْ كان ولو كان مع مَنْ يُحِبُّه ويُواليه؛ فهو ممَّنْ هُدِيَ لِمَا اختُلِفَ فيه مِنَ الحقِّ»(١).
علمًا أنَّ في المسألة تفصيلًا تناولتُه في كلمةٍ موسومةٍ ﺑ «ضوابط الاستفادة مِنْ كُتُب المبتدعة» تحت رقم: (٤٠) في الموقع.
وأمَّا علماء المدينةِ ومشايخُها ومِنْ غير المدينة ـ أيضًا ـ فأنا أُجِلُّهم وأقدِّرهم وأحترمهم وأتعاون معهم فيما ظهر لي أنَّه حقٌّ وصوابٌ ومعروفٌ، وأتمسَّك بموقفي فيما أراه حقًّا وصوابًا حتَّى يظهر خلافُه بحجَّتِه وبرهانِه، ولو خالف مَنْ يكبرني علمًا، ويفوقني قدرًا ومكانةً وعزَّةً، وأربأ بنفسي عن أَنْ أتعرَّض لأحدٍ منهم، لا بذمٍّ ولا انتقاصٍ ولا قدحٍ، لا مِنْ قريبٍ ولا مِنْ بعيدٍ، لا في مجلسٍ خاصٍّ ولا عامٍّ؛ وأنَّى يُظنُّ بي أنِّي أتعرَّض إلى كرام الناس بالقدح؟! اللهم إلَّا عند مَنْ يُجرِي اللوازمَ الباطلة مِنْ كلامي على غيرِ مجراه، ويقرأ في سطوري قراءةَ محرِّفٍ عن فحواه، أو يفهم سياقَ كلامي وسِبَاقَه على غيرِ معناه؛ فمثلُه يجرُّ أذيالَ الوقيعة والشِّقاق، ويُحدِث الفُرْقةَ وينشئ النِّفاق، ويصطاد في الماء العَكِر مِنْ غيرِ أدبٍ ولا أخلاقٍ؛ فهذا مسؤوليَّتي عليه مُنتفِيَةٌ، وإنِّي أبرأ إلى الله مِنْ أصحاب الفهم السقيم، والقصدِ اللئيم، والتأويلِ الذميم.
وبعد هذا أقول:
قد يحصل منِّي الخطأ والنسيان، ويعتريني السهوُ والغلط والتقصير، ونحوُ ذلك مِنَ النقائص التي هي مِنْ طبيعة البشر؛ فقدرتُهم محدودةٌ ـ كما هو معلومٌ ـ مهما علَتْ وارتفعت، ولا أدَّعي لنفسي العصمةَ مِنَ الأخطاء والنقائص؛ فالكمالُ لله وحده، والعصمةُ لمَنْ عَصَمه الله؛ ولذا أُهيبُ بكُلِّ مَنْ وَجَد ـ في مؤلَّفاتي أو تحقيقاتي أو مقالاتي وفتاوايَ ومسالكِ دعوتي ـ خللًا أو تقصيرًا أَنْ يُبصِّرني به، أو عيبًا أو خطأً أو نقصًا أَنْ يُرشِدني إلى صوابه مِنْ غيرِ تضخيمٍ ولا تهويلٍ؛ فالمؤمنون نَصَحةٌ، و«الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِنِ»(٢)، وأنا مُستعِدٌّ تمامَ الاستعداد في أَنْ أتراجع ـ فورًا كما هي عادتي ـ وأعودَ ـ  بكُلِّ إيمانٍ وثِقَةٍ واعتزازٍ ـ عن كُلِّ خَللٍ أو خطإٍ أو عيبٍ أصاب الناصحُ ـ في تقويمه ـ عينَ الحقِّ أو وافق الصوابَ، وأنا له مِنَ المُعترِفين الشاكرين.
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٨ رجب ١٤٣٩ﻫ
الموافق ﻟ: ٠٤ أبريل ٢٠١٨م


(١) «الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم (٢/ ٥١٦).
2
أخرجه أبو داود في «الأدب» بابٌ في النصيحة والحِيَاطة (٤٩١٨) مِنْ حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وحسنه الألباني في «صحيح الجامع» (٦٦٥٦).

الثلاثاء، 20 مارس 2018

المآخذ على البيان الأخير لرجال مجلة الإصلاح ـ أصلحهم الله ـ


السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لعلَّكم ـ شيخَنا ـ اطَّلعتم على البيان الأخير الذي نشره رجال مجلة الإصلاح؛ فنريد منكم أن تُدْلوا برأيكم فيه، وأن تبيِّنوا لنا فحوى البيان في الجملة مع الشكر الجزيل. [أخوكم من غيليزان]
الجواب:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالبيان الذي رسمه رجال مجلة الإصلاح ـ أصلحهم الله ـ ظهر لي فيه مآخذُ عدَّة، منها:
أوَّلا: أنه أجوفُ عقيمٌ لا جديدَ فيه يُذكر، فهو ـ كسائر البيانات الأخرى ـ ليس فيها إلا إيراد الآيات في غير محلِّها، مصحوبٌ بالتدليس والتلبيس والتغليط.
ثانيًا: بدلًا من أن يكون رجال مجلة الإصلاح ـ أصلحهم الله ـ حماةً للدين مصلحين مناصرين للمنهج السلفي، يهدفون لتحقيق الوفاق برجوعهم إلى الحق المبين بأدلته السمعية والمكتوبة، فإنه ـ بخلاف ذلك ـ لا تجد سوى دفاعٍ عن أشخاصهم وتزكيةِ ذواتهم، والسعي إلى استخراج صوتيةٍ تجريحية من علماء المدينة لتخويف المخالفين لهم وإرجافهم، وهذا شأن المفلسين الأموات غير الأحياء، الذين لا يعرفون من المعروف سوى ما يعود على ذواتهم ومصالحهم، لا نصرةً للدين ولا حمايةً للمنهج.
ثالثًا: البيان محشوٌّ بالطعون والتنقص للدعاة السلفيين والعلماء الصادقين؛ إذ إنَّ المشايخ لم يرفضوا جمع الكلمة ولا لمَّ الشمل، ولا تحقيق التآلف والأخوَّة، وإنما اشترطوا لذلك تحقُّقَ التوبة والرجوع عن المخالفات المنهجية الثابتة في حقهم، كما هو مقرَّرٌ في المنهج السلفي في التعامل مع المخالفين له، غير أنهم أهملوا حتى الإشارة إلى ذلك الشرط، فضلًا عن قبوله؛ بل يرفضونه جملةً وتفصيلًا، مع تحقُّق المخالفات المنهجية فيهم بالبيِّنات الساطعات.
رابعًا: وإذا كان وصفُهم ـ أصلحهم الله ـ للدعاة السلفيين الصادقين بأنهم ينتهجون المنهجَ الإقصائيَّ الباطل ويتبرَّأون منه ـ على طريقة تأثُّرهم بدندنة عبد المالك رمضاني وزمرته ـ فلِمَ يطلبون جمع الكلمة ووحدة الصفِّ ورأبَ الصدع مع الحاملين لهذا الوصف السابق ـ زعموا ـ؟!
خامسًا: في هذا البيان وقَّعوا على عدم رجوعهم عن منهج التمييع، مع ثبوت الشهادات السمعية والمكتوبة التي تُدينهم بذلك ـ مِن جهة ـ وثبوتِ لمزهم لإخوانهم الصادقين بالإقصاء ـ مِن جهة أخرى ـ وهم يسعَوْن ـ أصلحهم الله ـ إلى إقصاء إخوانهم الصادقين بشتَّى الطُّرُق الماكرة وكافَّة السُّبُل الخدَّاعة، يجنِّدون غلمانهم ـ في الداخل والخارج ـ ضِدَّهم بالتحسُّس والتجسُّس والإشاعة وتشويه صورتهم عند علماء الأمَّة، واللهُ الموعدُ.
هذا ما ظهر لي مِن نقاطٍ بَدَتْ لي بالجملة على عُجالة.
نسأل اللهَ أَنْ يرزقنا الإخلاصَ في السرِّ والعلن، ويُعيذَنا مِنَ الفِتَن في القول والعمل، ما ظَهَر منها وما بَطَن؛ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
أبو عبد المعزِّ محمَّد علي فركوس
الجزائر في: 2 رجب 1439هـ
الموافق لـ: 19 مارس 2018م