عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كان أبو بكرٍ رضي
الله عنه يحلب للحيِّ أغنامَهم، فلمَّا بويع بالخلافة قالت جاريةٌ من
الحيِّ: «الآن لا يحلب لنا منائحَنا»، فسمعها أبو بكرٍ فقال: «بلى، لعمري
لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو أن لا يغيِّرني ما دخلتُ فيه عن خُلُقٍ كنت
عليه»، فكان يحلب لهم، فربَّما قال للجارية: «أتحبِّين أن أرغيَ لكِ، أو أن
أصرِّح؟» فربَّما قالت: «أرغِ»، وربَّما قالت: «صرِّح»، فأيَّ ذلك قالت
فعل. [إسناده حسنٌ لغيره، أخرجه ابن سعدٍ في «طبقاته»].
وعن أبي صالحٍ الغفاريِّ أنَّ عمر بن الخطَّاب كان
يتعهَّد عجوزًا فكان إذا جاءها وجد غيرَه قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت،
فجاءها غيرَ مرَّةٍ كيلا يُسبق إليها، فرصده عمر فإذا هو أبو بكرٍ الذي
يجيئها، وهو يومئذٍ خليفةٌ فقال عمر: أنت هو لعمري.
ويرحم الله عبد الحليم المصري حيث يقول في بكريته الرائعة:
رَأَى عُمَرُ يَوْمًا عَجُوزًا بِدَارِهَا * غَدَا المَوْتُ مِنْهَا لِلْبَقِيَّةِ حَاسِيَا
فَقَالَ أُوَاسِيهَا وَأَقْضِي أُمُورَهَا * فَقَدْ عَدِمَتْ فِي المُسْلِمِينَ مُوَاسِيَا
مَضَى غَاشِيًا فِي نهرة الصُّبْحِ دَارَهَا * فَأَلْفَى لَهَا فِي نهرة الصُّبْحِ غَاشِيَا
فَقَالَ لَهَا مَنْ كَانَ فِي الحَيِّ سَابِقِي * وَمَنْ ذَا الَّذِي يَبْدُو لَهُ مَا بَدَا لِيَا
فَقَالَتْ: كَرِيمٌ يَعْتَرِي الدَّارَ سحْرَةً * فَيَجْمَعُ أَشْتَاتِي وَيَرْحَمُ مَا بِيَا
فَقَالَ: سَأُحْيِي اللَّيْلَ أَرْعَى طُرُوقَهُ * وَأَرْصُدُ سَبَّاقًا إِلَى الخَيْرِ سَاعِيَا
فَشَقَّ رِوَاق اللَّيْلِ عَنْ رَوْنَقِ الضُّحَى * وَلَكِنَّهُ الصِّدِّيقُ مَنْ كَانَ بَادِيَا
فَأَلْقَى الكُى عَنْ عَاهِلٍ عَزَّ قَبْلَهَا * وَمَا حَمَلَتْهُ النَّفْسُ إِلَّا المَعَالِيَا
وَأَلْقَى العَصَا فِي جَانِبٍ مِنْ خِبَائِهَا * وَهَيَّأَ فِيهِ لِلْقُدُورِ الأَثَافِيَا
فَصَاحَ بِهِ الفَارُوقُ مَا كَانَ سَابِقِي * سِوَاكَ أَبَا بَكْرٍ وَلَا كُنْتُ رَاضِيَا
أَفِي كُلِّ دَارٍ مِنْ أَبِي بَكْرٍ امْرُؤٌ * إِذَا أَهْلُهَا نَادَوْا أَجَابَ المُنَادِيَا
أَلَا عَائِلٌ إِلَّا تَمَثَّلْتَ كَافِلًا * وَلَا مُشْتَكٍ إِلَّا تَمَثَّلْتَ آسِيَا
[«ترطيب الأفواه» للعفاني (١/ ١١٤)]
عن عائشة رضي الله عنها أنَّ أباها قال لها: «أما
إنَّا منذ ولينا أَمْرَ المسلمين لم نأكل لهم دينارًا ولا درهمًا، ولكنَّا
قد أكلْنا من جريش طعامهم في بطوننا، ولبسنا من خشن ثيابهم على ظهورنا،
وليس عندنا من فيء المسلمين قليلٌ ولا كثيرٌ إلَّا هذا العبد الحبشيُّ وهذا
البعير الناضح وجردُ هذه القطيفة، فإذا متُّ فابعثي بهنَّ إلى عمر، وابرئي
منهن»، ففعلت.
فلمَّا جاء الرسول عمرَ بكى حتى جعلت دموعُه تسيل في
الأرض ويقول: «رحم الله أبا بكرٍ، لقد أتعب من بعده، رحم الله أبا بكرٍ،
لقد أتعب من بعده» [أخرجه ابن سعدٍ في «الطبقات» بإسنادٍ حسن].
ولله درُّ عبد الحليم المصري وهو يقول في قصيدته البكرية:
وَقَالَ وَقَدْ حَانَ الفِرَاقُ لِأَهْلِهِ * إِذَا مِتُّ رُدُّوا عَبْدَهُمْ وَرِدَائِيَا
وَرُدُّوا عَلَيْهِمْ حَائِطِي فِي دَارِهِمْ * تَقَاضَيْتُهَا مِنْهُمْ وَرُدُّوا صِحَافِيَا
فَذِكْرُكَ فِي الأَحْيَاءِ سَالَ مَدَائِحًا * وَذِكْرُكَ فِي الأَمْوَاتِ حَالَ مَرَاثِيَا
فَمَنْ لِي بِدَمْعِ المُسْلِمِينَ إِذَا جَرَى * وَمَا سَوْفَ يَغْدُو لِلْأَجِنَّةِ جَارِيَا
سَنَبْذُلُ مِنْ تِلْكَ العُيُونِ كَرَائِمًا * وَنُرْخِصُ مِنْ تِلْكَ الدُّمُوعِ غَوَالِيَا
وَفَاءً وَتَحْنَانًا إِلَى الزَّمَنِ الَّذِي * تَضَوَّعَ عَنْ عِطْرِ الخِلَافَةِ ذَاكِيَا
لَيَالِيَ كَانَ النَّاسُ لَا المَالُ مَالُهُمْ * وَمَا هُوَ إِلَّا مَالُ مَنْ جَاءَ عَافِيَا...
أَرَبُّ أَبِي بَكْرٍ سَيَخْلُقُ مِثْلَهُ * فَيُدْرِكَ مِنْ بُنْيَانِهِ مُتَرَامِيَا
بَقِيَّةُ إِيمَانٍ وَآثَارُ أُمَّةٍ * تَوَارَتْ عَنِ الأَبْصَارِ إِلَّا بَوَاقِيَا
ذَكَرْتُ أَبَا بَكْرٍ لِقَوْمِي وَلَيْتَنِي * بَلَغْتُ بِهِ مَا كُنْتُ فِي القَوْلِ رَاجِيَا
لَعَلَّ سَرَاةَ الدَّهْرِ تَبْلُغُ فَجْرَهُ * فَأَنَّى أَرَى الإِصْبَاحَ تَتْلُو الدَّيَاجِيَا
[«ترطيب الأفواه» للعفاني (١/ ١١٤)]
0 التعليقات:
إرسال تعليق